
في رسالة بالغة الدلالة السياسية والاقتصادية، جدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصميمه على الوقوف إلى جانب لبنان، معلناً عن تنظيم مؤتمرين دوليين قبل نهاية العام الجاري، أحدهما مخصص لدعم الجيش اللبناني والقوات المسلحة باعتبارهما حجر الزاوية في تحقيق السيادة الوطنية، والثاني لإطلاق خطة شاملة للنهوض الاقتصادي وإعادة الإعمار. هذه الرسالة التي وجهها ماكرون إلى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، تشكل منعطفاً جديداً في مسار العلاقات اللبنانية ـ الفرنسية، وتؤكد استمرار باريس في تبنيها للقضية اللبنانية بكل أبعادها الأمنية والاقتصادية والسياسية.
المبادرة الفرنسية تأتي في توقيت استثنائي داخلياً وإقليمياً، حيث يشكل دعم الجيش اللبناني محوراً أساسياً في تثبيت الاستقرار الداخلي وضمان حصرية السلاح بيد الدولة. ففرنسا ترى في المؤسسة العسكرية الركيزة الأهم لحماية السيادة الوطنية وتطبيق القرارات الدولية، خصوصاً بعد قرار مجلس الأمن الأخير بتجديد ولاية قوات اليونيفيل. وتعتبر باريس أن تمكين الجيش من أداء دوره الكامل هو المدخل الطبيعي لأي مشروع إصلاحي أو إنمائي، وأن الحفاظ على هيبته وقدراته يمثل أولوية دولية لا تقل أهمية عن معالجة الأزمات الاقتصادية.
لكن هذا الدعم العسكري الذي تسعى فرنسا لتنسيقه مع شركاء غربيين وعرب لا يقتصر على التمويل والتسليح، بل يمتد إلى تعزيز بنية المؤسسة العسكرية تنظيمياً ولوجستياً، وإرساء تعاون تقني وتدريبي طويل الأمد، في ظل قناعة فرنسية بأن الاستقرار الأمني هو الأساس لأي عملية إنقاذ اقتصادي لاحقة.
أما المؤتمر الثاني، فيتعلق بالنهوض وإعادة الإعمار، وهو خطوة تراهن عليها باريس لإعادة لبنان إلى خريطة الاستثمار الدولية. ففرنسا تخطط لجمع الدول المانحة والمؤسسات المالية الكبرى حول رؤية متكاملة لإعادة إعمار البنية التحتية المتضررة وتفعيل المشاريع الإنمائية، على أن تكون هذه المساعدات مشروطة بخطط إصلاح شفافة وقابلة للتنفيذ، بما يضمن حسن إدارة التمويل ويمنع الهدر والتسييس. وتدرك باريس أن أي مشروع إنقاذ اقتصادي جدي يجب أن يُبنى على التزامات إصلاحية حقيقية في مجالات الإدارة العامة، والقطاع المالي، والطاقة، ومحاربة الفساد.
ويأتي هذا التوجه الفرنسي بعد إدراك عميق أن لبنان لن يخرج من أزماته إلا من خلال إعادة بناء مؤسساته وتعزيز ثقة المجتمع الدولي به. فالمؤتمران اللذان وعد بهما ماكرون يجسّدان انتقال الدعم الفرنسي من مرحلة التصريحات المكررة إلى مرحلة الأفعال الملموسة، عبر الجمع بين المسارين الأمني والاقتصادي، في رؤية متكاملة تُعيد إنتاج الدولة اللبنانية على أسس جديدة من السيادة والاستقرار.
وعلى الصعيد السياسي، تعبّر الرسالة الفرنسية عن دعم واضح للخيارات السيادية التي أعلنها الرئيس عون، خصوصاً ما يتعلق بحصرية السلاح بيد القوات الشرعية، وتفعيل الشراكة بين الدولة والمؤسسات الدولية. كما تؤكد باريس، من خلال هذا التواصل، حرصها على حماية الاستقرار الداخلي ومنع أي انزلاق قد يعيد لبنان إلى دائرة التوتر.
وفي البعد الدبلوماسي، تعكس الرسالة استمرار الرهان الفرنسي على لبنان كمنصة للحضور الأوروبي في الشرق الأوسط، وكجسر للتوازن بين مصالح الغرب والعالم العربي. ففرنسا ترى في مبادرتها استثماراً طويل الأمد في استقرار بلد يشكّل ركيزة للتوازن الإقليمي. لذلك، فإن المؤتمرين المنتظرين يشكلان اختباراً مزدوجاً؛ اختباراً لقدرة فرنسا على حشد الدعم الدولي، واختباراً للبنان في مدى استعداده لتلقف هذه المبادرة بمسؤولية وجدية.
لذلك؛ تفتح رسالة ماكرون الباب أمام مرحلة جديدة من الشراكة بين بيروت وباريس، عنوانها “الدعم مقابل الإصلاح”. ففرنسا تضع على الطاولة فرصة لا تتكرر دائما لإعادة الثقة الدولية بلبنان، لكنها في المقابل تطالب بجدية في التنفيذ وشفافية في الإدارة. وإذا نجح لبنان في استثمار هذه الفرصة، يمكن أن تشكل المؤتمرات الفرنسية المقبلة نقطة انطلاق فعلية نحو الخروج من الانهيار، وإعادة تثبيت حضور الدولة ومؤسساتها في الداخل والخارج. أما الفشل في اغتنامها، فسيعني ضياع آخر فرص الإنقاذ قبل أن تتحول المبادرات الدولية إلى مجرد بيانات تضامن لا أكثر.
داود رمّال – “أخبار اليوم”