فهل يمكن الإكتفاء بالنظر الى زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية ببعدها الروحي والرعوي، أليست الزيارة لجهة التوقيت وما تضمّنته من رسائل حملتها كلمة البابا في القصر الجمهوري هي جزء من سياق إقليمي ودولي عبّرت عنه التغييرات الجذرية في سوريا وغزة ونقله أكثر من موفد إلى لبنان؟
تدرك الولايات المتحدة قدرة الفاتيكان على التأثير في القرار اللبناني لا سيما لدى رئاسة الجمهورية التي لم تذهب تاريخياً بعيداً عن إرادة الحبر الأعظم الذي شكل لها الملاذ الأخير في زمن الأزمات الوجودية. وفي هذا الإطار يمكن قراءة وفهم التصعيد في المواقف الأميركية المستمر إبّان زيارة البابا للبنان، بما يؤدي إلى تموضع الرسائل التي حملها في السياق الموضوعي لتطور الموقف الأميركي من لبنان. وفي هذا الإطار يمكن إدراج رسالة السفير «توم باراك» المزدوجة نحو لبنان والعراق بأن هناك «عملية إسرائيلية قريبة ضد حزب لله في لبنان وأنها ستستمر حتى نزع سلاحه وأن العراق سيواجه ضربة إسرائيلية قاسية إذا تدخلت الفصائل إلى جانب حزب لله».
وفي السياق عينه يندرج موقف السفير الأميركي إلى لبنان ميشال عيسى في مقابلة مع صحيفة «هآرتس» العبرية، بأن «إسرائيل تقيّم احتياجاتها الأمنية بنفسها وستتخذ كل الوسائل التي تراها مناسبة لحماية مواطنيها، وهي ليست بحاجة إلى إذن واشنطن لتدافع عن نفسها». وأضاف عيسى «ملتزمون بتنفيذ الإتفاق في لبنان لأنه مهم لإعادة سلطة الدولة وتأمين مستقبلها ….وأن «تفكيك سلاح حزب لله والتنظيمات الأخرى خطوة أساسية لضمان السلام».
وتُستكمل الأجندة الدولية بالزيارة المرتقبة في السادس من الشهر الجاري لبعثة من مجلس الأمن الدولي، الى بيروت، قادمة من سوريا وتضم 14 سفيراً هم سفراء الدول الأعضاء في المجلس، بالإضافة إلى نائبة المبعوث الخاص للرئيس الأميركي للشرق الأوسط مورغن أورتاغوس التي ستشارك الأربعاء المقبل في إجتماعٍ للجنة «الميكانيزم» في الناقورة. يتزامن وصول البعثة الدولية مع انعقاد جلسة مجلس الوزراء المخصصة للإستماع للتقرير الثالث الذي أعدته قيادة الجيش والمتعلق بالمرحلة الأخيرة لاستلام سلاح حزب لله في جنوب الليطاني وإخلاء منشآته العسكرية والبنى التحتية. ستتيح الزيارة للبعثة الدولية الإطلاع من اليونيفيل ولجنة الميكانيزم على الوضع في جنوب الليطاني لجهة إلتزام كل من لبنان وإسرائيل بإتّفاق وقف إطلاق النار وتطبيق القرارين 1701 و 1559 ونقل الموقف إلى مجلس الأمن لاتّخاذ القرار المناسب لا سيما أن مدة عمل اليونيفيل ستنتهي في نهاية العام 2026.
في هذا السياق الحافل بالأحداث تُقرأ كلمة البابا في القصر الجمهوري التي استهلها بعبارة «طوبى لفاعلي السلام» ودعوته لاتّباع «طريق المصالحة الشاق» والعمل على «شفاء الذاكرة والتقارب بين من تعرضوا للإساءة والظلّم». وإذ أضاف البابا «إنَ ثقافة المصالحة لا تولد من القاعدة فقط، ومن استعداد البعض وشجاعتهم، بل تحتاج إلى السلطات والمؤسسات التي تعترف بأن الخير العام هو فوق خير الأطراف، والخير العام هو أكثر من مجموع مصالح كثيرة»، فقد وجّه أكثر من رسالة مشفرة ومحذرة في الوقت عينه للمسؤولين في الداخل اللبناني.
«طوبى لفاعلي السلام» التي لاقت دعوة الرئيس جوزاف عون للبابا لإبلاغ العالم بـ»أننا باقون مساحة اللقاء الوحيدة، في كل منطقتنا، ….ممثّلين متّفقين لكل أبناء إبراهيم، بكل معتقداتهم ومقدساتهم ومشتركاتهم» تكتسب أكثر من دلالة كما تطلق أكثر من تحذير.
فهل يمكن تصنيف الرسائل التي حملها البابا بمثابة الإنذار الأخير للبنان، وهل تؤدي تلك الرسائل إلى تعديل في الجنوح السياسي الذي يحكم لبنان، وما هو المدى المتاح لـ«استراحة المحارب» التي أتاحتها زيارة البابا أم هي مرحلة السكون الذي يسبق العاصفة؟
العميد الركن خالد حماده – اللواء


