في لبنان، تجاوزت سجوننا حدود الإهمال إلى مرحلة كارثية، حيث تُترك حياة الموقوفين رهينة الاكتظاظ والفوضى ونقص أبسط مقومات الحياة. لذلك، لطالما حرصت “الديار” على تناول القطاع السجني مرارا، لكشف ما يجري خلف جدران الزنزانات التي تعاني من أوضاع صحية مزرية، نقص الدواء، انعدام الطبابة والرعاية النفسية، انتشار الأمراض، وبيئات معيشية تحاكي الجحيم.
واليوم، نعيد فتح الملف نفسه، بعد أسابيع قليلة فقط، على وقع معلومات مؤكدة عن حالة انتحار الأسبوع الماضي في سجن رومية. لم يصدر أي بيان رسمي، بينما آلاف الرسائل وصلت إلى “الديار” من عائلات الموقوفين، تحذر من أن الوضع لم يعد يحتمل، وأن أبناءهم مهددون بحياتهم إذا لم تتحرك السلطات فورا.
ما يحدث في السجون اللبنانية لم يعد خافيا أو مجرد حادثة عابرة، بل صرخة مدوية تكشف فشل المنظومة بالكامل في حماية أرواح الموقوفين، وسط صمت رسمي قاتل.
حقوق السجناء لا تندرج ضمن حقوق الانسان!
من جهته، يتساءل رئيس لجنة السجون في نقابة المحامين في بيروت، المحامي جوزيف عيد: “عندما تكون نسبة الاكتظاظ 340٪ وتبلغ نسبة الموقوفين غير المحكومين 83٪ من أصل 8400 سجين موزعين على 25 سجنا و229 نظارة، فماذا ستكون النتيجة؟”
ويجيب: “وضع صحي كارثي، وحركات تمرد تصل إلى حد الفوضى، وأحداث دموية، ووضع غذائي مزرٍ، وعدم تأهيل نفسي”.
ويضيف: “كل ذلك بسبب عدم إعطاء السجون الأولوية، إضافةً إلى عدم تأمين آليات السوق، وغياب تنفيذ أو تطبيق نصوص المواد 108 و111 وغيرها المتعلقة بإخلاءات السبيل، وبطء الإجراءات، وقلة القضاة، والأوضاع الاقتصادية، ونقص الدواء والأطباء، وانعدام المتابعة، خاصة استمرارية المتابعة النفسية والصحية، الأمر الذي يؤدي إلى أوضاع كارثية في السجون، ومنها حالات الانتحار الأخيرة”.
الانتحار سبيل للراحة الأبدية ام لاستعادة الكرامة المفقودة؟
ويقول لـ “الديار”: “الملفت في هذه الظاهرة أن الحالة الأخيرة هي حالة انتحار قاصر في مركز تأهيل الأحداث المخالفين للقانون في سجن الوروار، رغم أن المركز مجهز وفقًا للمعايير الدولية. ويعود ذلك إلى عدم قدرة الدولة على التعاقد حسب الأصول مع أطباء صحة ونفسيين للمتابعة المستمرة، بل تبقى الأمور في عهدة قلة من الأطباء المتعاقدين وهم في نقص مستمر بسبب الأوضاع المادية وعدم تأمين معاشات لائقة. وتعتمد الدولة في تغطية النفقات على المنظمات الدولية والصليب الأحمر والجمعيات، لكن ايضا بصورة متقطعة، وهذا لا يكفي، مما يزيد حالات المرض والانتحار في ظل هذه الظروف القاسية، ناهيك عن أن المتهمين والمحالين إلى السجون يعيشون في بيئة متواضعة وتربية غير كافية، إن لم تكن من بيئة مكررة للجرائم”.
ويشير: “أعلنت نقابة المحامين في مؤتمرها، ومن خلال لجنة السجون، عن خطة طوارئ قضائية وصحية وإنسانية، ووضعتها برسم وزارتي العدل والداخلية والحكومة مجتمعين، وطرحت بينهم إنشاء مستشفى ميداني صحي تأهيلي في أكثر السجون اكتظاظًا، مثل سجني رومية والقبة”.
الحبس للتأهيل وليس للتحطيم!
ويشدد: “يجب تجهيز هذه السجون بسيارات إسعاف للحالات الطارئة، بالإضافة إلى اخلاءات السبيل للمستحقين، وقد بلغ عددهم 1200 سجين، بانتظار الحلول الجذرية التي تتطلب رعاية سياسية وطائفية في مجلس النواب وقرارات الحكومة”.
ويتابع: “كذلك تأمين آليات السوق وتسهيل المعاملات القضائية، بالإضافة إلى التعاقد مع أطباء ومستشفيات بهذا الخصوص. ونتمنى أن تكون السجون أولوية لدى الحكومة، كما تأمل لجنة السجون، وبالتكامل مع القضاء وقوى الأمن والوزارات المختصة، التجاوب المطلق مع خطتها وفقًا للقرارات الصادرة عن مؤتمرها الأخير”.
الجمعيات لم تعد قادرة على غض الطرف
في سياق متصل، يكشف مصدر في إحدى المنظمات المتعاقدة لتنفيذ برامج دعم داخل السجون لـ “الديار” أن الواقع داخل السجون اللبنانية يختلف جذريا عن الصورة التي تُعرض رسميا. ويؤكد أن السجون تعاني من حرمان شديد، ونقص في الأدوية، وحالات تعذيب، وغياب شبه تام للاستشارات النفسية والاجتماعية التي يُفترض أن تُقدَّم للسجناء بشكل دوري”.
ويشير المصدر إلى أن: “المعطيات التي تصل إلى المنظمة تناقض كليا التصريحات الأمنية التي تتحدث عن أن “الوضع السجني جيد”، مؤكّدا أن المعلومات المتوافرة لدى الجهات المتخصصة تثبت العكس بشكل واضح”.
الدولة على خط الرشوة!
ويشرح أن: “المنظمة التي يعمل ضمنها تُعنى بتنفيذ برامج دعم داخل السجون، من تدريب عناصر قوى الأمن على أساليب التعامل مع السجناء، إلى إرسال اختصاصيين نفسيين واجتماعيين للاستماع إلى الحالات الصحية أو النفسية أو الاجتماعية. إلا أن دخول هؤلاء الاختصاصيين غالبا ما يكون بالغ الصعوبة، إلى حد اضطرار بعضهم أحيانا إلى تقديم “هدايا بسيطة” للموظفين مثل: الأقلام أو الدفاتر أو غيرها من الأمور التي تندرج ضمن إطار “البرطلة” بغية السماح لهم بالدخول”.
كما يكشف المصدر أن: “الجلسات التي تُجرى مع السجناء إن حصلت تفتقر إلى الخصوصية، إذ يُفرض وجود عنصر من قوى الأمن خلالها، فضلًا عن أنها غالبا ما تُعقد في غرف ضيقة وغير مجهّزة، وفي بعض الأحيان في ممرات ضيقة وغير نظيفة”.
ويضع المصدر هذه المعلومات بين يدي الجهات المعنية، داعيا إلى إعادة النظر في الحدّ الأدنى من حقوق الإنسان الواجب تأمينها للسجناء، بحيث يحصل كل موقوف على حقوقه الأساسية، أو على الأقل على جزء منها، مهما كانت الظروف.
جهنم وسجون لبنان متشابهان!
من جانبها، توضح الاختصاصية النفسانية والاجتماعية، الدكتورة غنوة يونس، لـ “الديار”: “من المنظور النفسي، لم يعد بالإمكان اعتبار تكرار حالات الانتحار داخل السجون اللبنانية ثلاثة ضحايا خلال شهرين، بينهم قاصر مجرد حوادث فردية. وبالتالي هذا يعكس نمطا واضحا يُبرز ضعف منظومة كاملة في حماية الموقوفين، وفي توفير الحد الأدنى من الرعاية النفسية والإنسانية لهم”.
وتضيف: “السجون اللبنانية اليوم ليست مجرد أماكن للاحتجاز؛ إنها بيئات مكتظّة، مهمَلة، ومشحونة بالتوتر والخوف، حيث يعيش الموقوفون تحت ضغط نفسي غير قابل الاحتمال. إن غياب المحاكمات السريعة، وطول الجلسات، وتأخير الملفات لسنوات، يخلق شعورا عميقًا باللايقين واللاعدالة وهذان عاملان أساسيان في ارتفاع الأفكار الانتحارية لدى أي شخص محتجز”.
وتشرح يونس: “من الناحية النفسية، يواجه الشخص الموقوف عدة ضغوط، منها:
-انعدام السيطرة على مصيره.
-انهيار الشعور بالأمان.
-عزلة تامة عن العائلة والدعم الخارجي.
-توتر يومي، مع احتمال التعرض للإهانات أو العنف، خاصة بين المساجين بعضهم البعض.
-ظروف احتجاز غير إنسانية، إذ لا ينكر أحد التكدّس في السجون”.
كارثة الكوارث!
وتؤكّد: “كل هذه العوامل تسحب الإنسان إلى القاع إلى مكانٍ يصبح فيه الموت ليس اختيارا، بل الهروب الوحيد من معاناة مستمرة لا يراها أحد، ولا يتدخّل أحد لوقفها”.
وتحذر: “أما بالنسبة للقاصر، فالأمر أخطر بكثير. فالمراهق لا يمتلك بعد القدرة العاطفية والعصبية لتحمّل ضغوط من هذا النوع، ولا يملك أدوات ناضجة للتكيّف. فالحبس الطويل، والانتظار، والظروف المهينة، تصبح فوق طاقته النفسية، مما يعزز اندفاعيته واحتمال انهياره”.
القرار ليس سهلا… ولكن!
وتؤكد: “عندما يقع انتحار داخل السجون، لا نتحدث عن “قرار شخصي” فحسب، فهذا دليل واضح على:
-ضعف في رصد الحالات الخطرة.
-ضعف في توفير متابعة نفسية.
-ضعف في تأمين ظروف احتجاز إنسانية.
-ضعف منظومة عدلية نتيجة طول المحاكمات إلى حد يكسر الإنسان من الداخل”.
وتختم حديثها قائلة: “الانتحار داخل السجون هو نتيجة مباشرة لمعاناة نفسية تُركت بلا علاج. من هنا نحن بحاجة إلى:
-تقييم نفسي إلزامي لكل موقوف عند دخوله.
-متابعة دورية للحالات الهشة والضعيفة.
-خط ساخن نفسي داخل السجون.
-وحدات حماية خاصة للقاصرين.
-تدريب العناصر على رصد أي علامات خطر.
-وقبل كل شيء: تسريع المحاكمات، لأن الانتظار بحد ذاته يعد نوعا من العقاب النفسي القاسي”.
ندى عبد الرزاق – “الديار”


