Categories: محليات

الجمهورية” تنشر دراسة “الجنرال” عن الاستراتيجية الدفاعية

منذ خطاب القَسَم للعماد جوزاف عون والبيان الوزاري لحكومة نواف سلام يزداد الكلام عن استراتيجية دفاعية، وبدأ الجدل حول التسمية «دفاعية» أم «أمن وطني»… وانبرى المنظّرون يشرحون الفَرق، واصطفّ اللبنانيّون كالعادة مع وضدّ… يقول أهل الإختصاص، إنّ مفهوم الاستراتيجية الدفاعية، وتحت أي عنوان كان، لا بُدّ أن يتّسم بشمولها جميع مؤسسات الدولة ومواردها، لتتمكن من العمل ضمن آليات متكاملة تعتمد على مركزية القرار ومراقبة التنفيذ.

في تشرين الثاني من العام 2008، أي منذ 17 عاماً، قدّم الجنرال ميشال عون دراسة موجزة أعدّها عن الإستراتيجية الدفاعية، وعرضها على طاولة الحوار المنعقدة في القصر الجمهوري. وأثناء ولايته الرئاسية دعا المعنيِّين إلى اجتماع لإقرار استراتيجية دفاعية، لأنّ الأخطار المُحدِقة بلبنان كانت كبيرة، ومجابهتها تستوجب الوحدة الوطنية. ولكن قوبلت الدعوة بالرفض الصامت من قِبل جميع الأطراف.

«الجمهورية»، وفي إطار مساهمتها في الإضاءة على هذا الملف الهام، تنفرد بنشر دراسة الرئيس العماد ميشال عون.

إنّ الإستراتيجية بمفهومها العام هي الترجمة العملية للسياسة التي تلتزم بها الدولة في قطاع ما من القطاعات العامة، وتحتوي طبعاً على أهداف ووسائل وأساليب عمل يُصمَّم لها أن تعمل ضمن تنسيق وانسجام. فلكل قطاع استراتيجية؛ هناك الإستراتيجية الاقتصادية والإستراتيجية التربوية والإستراتيجية البيئية والإستراتيجية السياحية… وما يعنينا اليوم هي الإستراتيجية الدفاعية التي توافقنا على دراستها، ويجب أن تكون ترجمةً للسياسة الدفاعية التي تعتمدها الدولة.

عندما نتكلم عن الإستراتيجية الدفاعية يتبادر إلى الأذهان تنظيم القوات المسلّحة وأسلحتها وأساليب قتالها. لكنّ الدفاع عن بلد ما لا ينحصر في الشق العسكري والقتالي فقط، فلمؤسسات الدولة كافة دور فيه، إذ لكل منها دور أساسي في إعداد الوسائل وتحفيز المجتمع وتعبئة القوى الداخلية والخارجية لمساندة الجهد الدفاعي.

فالإستراتيجية الدفاعية تتسمّ بشمولها جميع مؤسسات الدولة ومواردها، لتتمكن من العمل ضمن آليات متكاملة تعتمد على مركزية القرار ولامركزية التنفيذ.

وإذا كانت أهداف الدول الكبرى الحصول على القدر الأكبر من المصالح والنفوذ والمحافظة عليها، فالدول الصغرى طموحاتها محدودة، ولا تتخطّى الدفاع عن حقها بالاستقرار والوجود.

إنّ لبنان، مقارنةً بدول المحيط، هو الأصغر مساحةً وحجماً سكانياً وموارد، كما أنّ مجتمعه يتميّز بتوازنات اجتماعية – دينية قد تكون نقطة قوّة أو نقطة ضعف، القوّة في وحدته الوطنية والضُعف في غيابها. وهذه الوحدة ضرورة مطلقة في الإستراتيجية الدفاعية، وفقدانها هو مصدر للنزاع، وقد يَستدرِج السلاح إلى داخل البلاد، فيخرج عن الهدف المعدّ له، وبدل أن يكون للدفاع عن الحدود يصبح أداة للاقتتال.

فالوحدة الوطنية هي ثابتة تُبنى عليها الإستراتيجية الدفاعية، وهي ضرورة للبنان، كما هي ضرورة أيضاً لبلدان العالم كافة مهما اختلفت مكوّنات مجتمعاتها.

I. الأخطار التي تُهدّد لبنان:

بعد تحديد هذه الثابتة الوطنية، علينا أن نُحدِّد الأخطار المحدقة بلبنان، الداخلية منها، أي الأمنية، والخارجية أي العسكرية. وانطلاقاً من هذه الأخطار نُحدّد سياستنا الدفاعية.

تتهدّد لبنان أخطار عدة، داخلية وخارجية، داخلية تتعلّق بالأمن أي بسلامة اللبنانيِّين كأفراد، سلامة ممتلكاتهم، وسلامة الدولة والنظام، وخارجية تنال من سلامة الأرض والشعب والسيادة والاستقلال، بمعنى أنّها تُهدّد كيان الوطن ووجوده.

1 – الأخطار الداخلية الأمنية:

أولاً: الإرهاب، وهو خارجي المصدر بشقَّيه العقائدي والتمويلي، لكنّه يعتمد على قاعدة داخلية بصرف النظر عن حجمها وقدرتها.

ثانياً: الوجود المسلّح الفلسطيني بشقَّيه، خارج المخيّمات وداخلها، ذلك نظراً لتعدّد قياداته وأهدافها، ونظراً لصداماته الداخلية التي تحدث بين الفينة والفينة وتُشكّل مصدر قلق للبنانيِّين، وقد تتسبّب، إذا ما تطوّرت، بضرب الاستقرار الوطني.

ثالثاً: الميليشيات اللبنانية المسلّحة، والحوادث الأمنية الأخيرة والاشتباكات الجوّالة خير شاهد على ذلك.

2 – الأخطار الخارجية العسكرية:

أولاً: إسرائيل وأطماعها في لبنان، خصوصاً في مياهه، وهي اليوم تحتل قسماً من الأرض اللبنانية، واعتداءاتها تتكرّر بشكل مستمر براً وجواً وبحراً.

ثانياً: محاولة إسرائيل نزع سلاح المقاومة للسيطرة على القرار اللبناني، بغية فرض الحلول في ما يتعلّق بالقضايا المعلّقة مع لبنان ومع الفلسطينيِّين، يساعدها في ذلك المجتمع الدولي من خلال تجزئته تنفيذ القرارات الدولية، بالإصرار على تنفيذ ما هو حديث ومريح لإسرائيل وتجاهل ما هو قديم ولمصلحة الفلسطينيين (القرارات 194 و1559 و1701).

ثالثاً: رفض إسرائيل لعودة الفلسطينيِّين وفرض التوطين.

II. معالجة الأخطار:

والآن نتساءل بالنسبة إلى هذه الأخطار، ما هي السياسة الأمنية والدفاعية للدولة اللبنانية؟ هل تريد أن تقاوم هذه الأخطار وتواجهها، أم أنّها تريد الرضوخ والقبول بما يُفرَض عليها، أم أن تعتمد سياسة أخرى؟

من خلال الإجابة عن هذه الأسئلة نستطيع أن نُحدِّد خياراتنا، فإمّا اعتماد استراتيجية دفاعية محدّدة يُجنِّد لها لبنان قدراته المتوفّرة، أو الاتكال على الصداقات والصَدَقات فقط، أي أن نتوسّل الأمن والدعم من العالم.

إنّ الفرضية الطبيعية التي أتَّخذُها قاعدةً لطرح الترجمة العسكرية للإستراتيجية الدفاعية هي أنّ لبنان قد اختار مواجهة الأخطار التي تتربّص به.

1 – معالجة الأخطار الداخلية الأمنية:

من الأخطار الأمنية، كما تُبيِّنها الفرضية، الإرهاب الذي هو مزيج من تفاعلات خارجية وداخلية، تخلق جواً مؤاتياً للإرهابيِّين الذين يجدون في المجتمع ملجأً أميناً يُغطّي وجودهم، وصَوتاً معترضاً على أي تعرّض لهم، فيؤمّنون بذلك استمرارهم وغطاءً لعملهم.

إنّ الأعمال الإرهابية تقوم على الاغتيال، وفي أغلب الأحيان على الاغتيال السياسي واختطاف الرهائن، وكذلك على التفجيرات في الأماكن الآهلة التي تستهدف القتل للقتل أو لضرب المؤسسات، والغاية من أعمالها تقويض الاستقرار الأمني وإثارة القلق والفوضى لمصلحة قوى خارجية. وإذا ما نجحت في السيطرة على بقعة ما، فإنّها تنتقل إنطلاقاً من هذه البقعة إلى حرب انقلابية على السلطة وتهديمية للمجتمع، كما حدث في نهر البارد.

إنّ مكافحة هذا النوع من الأعمال يقتضي تأهيلاً قتالياً وتقنياً خاصاً للوحدات المكافِحة للإرهاب، وتجهيزاً للقوى بعتاد متطوّر، كما يفرض تنسيقاً دقيقاً بين مختلف الأجهزة المخابراتية وسرعة في التدخّل، ممّا يستوجب إيجاد تنظيم خاص مشترك، مخابراتي عملاني عدلي (مركز عمليات مشترك يجمع المخابرات وقادة الوحدات وقضاة)، يسمح بالتحرّك السريع وضمن السرّية المطلقة. ومعالجة الإرهاب يجب أن تكون في بداياته وقبل تناميه وزيادة قدراته على القتال، تماماً كما تُعالج الحرائق.

إنّ الأحداث الأمنية المتتابعة بين الجيش وبعض التنظيمات الفلسطينية المسلّحة، وبين الفلسطينيِّين أنفسهم، تُثير قلق المواطنين اللبنانيِّين، لما يُوقظ الوجود الفلسطيني المسلّح في نفوسهم من ذكريات أليمة، بالإضافة إلى خشية بعض اللبنانيِّين من أن يُصبح الفلسطينيّون طرفاً في نزاع داخلي.

لذلك، يجب أن تُحلّ قضية الوجود الفلسطيني المسلّح بالسرعة الممكنة، وفي مطلق الأحوال، أن تكون القوى العسكرية اللبنانية جاهزة وقادرة على احتواء أي طارئ أمني يُهدِّد بالانتشار في المجتمع اللبناني.

أمّا قضية الميليشيات المجدَّدة منها والمستجِدّة، فقد تسبّبت بصراعات محلية كادت أن تتحوّل إلى حرب أهلية في مناطق مختلفة من لبنان، وقد يتحوّل سلاحها إلى آلة للتدمير الذاتي ويتسبّب في انهيار الدولة. ففي أي صراع داخلي ستكون القوات المسلّحة مشلولة بسبب الانقسام السياسي، وستفقد قدرتها على ضبط الأوضاع. علماً أنّه لا يُمكن مقارنة سلاح الميليشيات بسلاح المقاومة المنضبط والمعدّ للعمل ضدّ إسرائيل.

2 – معالجة الأخطار العسكرية الخارجية:

لا شك أنّ أي قوّة عسكرية في العالم لها نقاط ضعفها ونقاط قوّتها أيضاً، وإسرائيل بنوعية أسلحتها وقوّة نارها تتمتع بطاقة هائلة على التدمير، والمدى الذي يوفّره سلاح الجو يؤمّن لها الوصول إلى عمق الدول المحيطة بها. وإذا كانت قوّتها في كونها طاقة تدميرية تغطّي مساحاتٍ شاسعة، فإنّ ضعفها يكمن في عديد قوى البر المحدود وإعداد هذه القوى، وبالتالي هي تعجز عن القتال في مجتمع مقاوم. وإن تنجح آنياً وأحياناً في عمليات محدودة، فهي تبقى دائماً عاجزة عن السيطرة والاستمرار في الاحتلال.

ونقطة الضعف الأخرى هي التداعيات الكبيرة في المجتمع الإسرائيلي أمام الخسائر البشرية في الحرب، وتجاربها في لبنان لم تكن يوماً ناجحة، بدءاً بما حدث بعد اجتياح 1982 والسنوات التي تلت، ونتائج حرب تموز 2006.

وبناءً عليه، يقوم الردع على تكوين قوّتَين، الأولى من الجيش النظامي، والثانية من المقاومة، وتكونان قادرتَين على تحميل العدو خسائر تفوق طاقته على تحمّلها، وذلك باعتماد أسلوب قتال بوحدات صغيرة تستطيع التخفّي والاحتماء، ولا تُشكّل أهدافاً مهمّة للطيران. بالإضافة إلى تكوين جهاز دفاع جوي حديث.

إنّ هذا النوع من القتال يقتضي تدريباً جديداً لوحدات الجيش المقاتلة يمكّنها من القيام بمهمّات أمنية بتشكيلاتها العادية، والتوزّع أثناء القتال والانتقال إلى حرب العصابات. وتكوين هذه القوى المقاتلة يحتاج إلى تدريب خاص على الأساليب الجديدة المعتمدة في القتال.

أمّا قوى المقاومة فتتشكّل من السكان، لذا يجب أن تغطّي هذه القوى الأراضي اللبنانية كافة؛ فإمكانية الإنزال لدى العدو متوفّرة في جميع الأماكن والأوقات، ولا يمكن قياس ما سيحدث في حرب مستقبلية على ما حدث في حرب تموز؛ فشواطئنا مفتوحة وأجواؤنا مكشوفة، لذا يجب التخطيط لجميع الحالات المتوقعة.

ومن الطبيعي أن تُحدَّد شروط الأهلية والقدرة على الانخراط في هاتَين القوَّتَين من قِبل لجان مختصّة، لأنّها يجب أن تتحلّى بمواصفات جسدية ومعنوية وانضباطية وتقنية، تسمح لها بتحمّل المشقات، وبروح المبادرة التي تساعدها على إدارة القتال في وحدات صغيرة.

إنّ هذه الدراسة المقتضبة تشكّل الخطوط الكبرى للإستراتيجية الدفاعية، وهي تشكّل قاعدة للمناقشة على المستوى السياسي للإقرار. وتوسيع دراسة تطبيق هذه الإستراتيجية يتطلّب أخصائيِّين من مختلف قطاعات الدولة، كما جاء في المقدّمة بأنّ الإستراتيجية الدفاعية تشمل مختلف هذه القطاعات.

أخبار مربطة